محمد زهرة
لم يبق مثقف تقدمي
، حداثي ، في الغرب المسيحي ، لم يكتب عن وحشية طروحات الكهنة ، و من يتبعهم ، و سلوكاتهم
الدموية التي أجهضت الوعي الغربي لزمن طويل . و قتلت روح المبادرة لدى تلك الشعوب
. و لولا عملية فضح طريقة التفكير الكهنوتية ، يومذاك ، لما انتفضت الشعوب الأوروبية
من غفلتها ، لتقوم ببناء مجدها الحضاري . و قد تلقت تلك الشعوب الثقافة الجديدة بروح
منفتحة إلى حدّ كبير ، أدى بها إلى توجه الوعي المنتفض ، نحو العلمانية التي وضعت القارة
المسيحية في مقدمة شعوب العالم . بذلك خرجت أوروبا من ( ظلامها ) حاملة المحرك البخاري
بيد ، و المدفع باليد الأخرى . لتسيطر على العالم الذي بقي مشغولا بالغيب ، و الفكر
الخرافي
.
ما يحدث اليوم في
هذا المنعطف الحاد ، من تاريخ المنطقة الإسلامية ، يُشبه ، إلى حدّ ما ، ما حدث في
أوروبا نهاية القرون الوسطى . و لكن ما يلفت النظر في بلادنا : إن المثقف العربي (
المتدين ) و لا أقول المتطرف ..رغم أنه متطرف مع وقف التنفيذ ، مازال لم يخضع النص
للعقل .. فينتفض هذا المثقف ضد أي نقد للفكر الديني بدوافع عديدة . منها الخوف على
مرتكزاته الفكرية الروحية ، من التهدم ، و الانهيار ، و التي بنى عليها ثقافته..! و
منها الغيرة على الدين ، أمام الديانات الأخرى متمسكا بموروثه ( الحضاري ) الذي تعلمه
في التواريخ ، المزيفة ، المدرسية ، للأنظمة العربية التي اعتمدت على أمراء الدين في
حمل كراسيها ، و حمايتها . و كثيرا ما يتأفف ذلك المثقف ( العلماني ) الذي بنى علمانيته
على حامل ديني ، فسقط المحمول في هذه الرجّة العنيفة ، في هذه المرحلة ، و بقي الحامل
فقط ، ليقاد سلوك ذلك المثقف العربي بروحانيته الدينية ، التي حاول التنكر لها في مرحلة
( النهوض ) الفكري بتأثير الفكر الغربي الحداثي ، بما أنتج من سلع أذهلت العقل العربي
، و جعلته مندهشا منساقا خلف العقل المنتج للآلة ، التي أنتجت السلعة التي غزت ، بدورها
، أسواق العرب . ناهيك عن الحداثة الغربية ، التي نسخها العقل العربي نسخا ، دون أرضية
اقتصادية ، و ثقافية منتجة للسلع ، و المفاهيم التي راحت تغزو اللغة العربية ، و غيرها
من اللغات ، التي بقيت شعوبها مستهلكة لكل قادم من الغرب ، من سلع ، و أفكار ..! و
لم ينتبه المثقف ، و لا من يقدس العربية ، و يعتبرها لغة السماء ..إنها في خطر من غزو
المفاهيم ، و المفردات التي تسربت إليها ، و ما أكثرها . و عندما اشتغل العقل العربي
في ترجمتها ، قام بإفسادها ، و لم تعط الترجمة للكلمة روحها . لذلك وقع العقل العربي
في ورطة التسليم ، و النكوص ، و الانكفاء ، على ذاته ، هربا ، أو خوفا من الحداثة ،
القادمة من الغرب ، الذي بولغ في نعته بالكافر ، من الأمير الديني العربي ، و الأمير
السياسي أيضا قام بفعل مضاد متجاوبا مع الديني لهروبه أمام الحداثة الغربية ، لتجييش
عامة الناس خلفه ، للّجوء إلى السماء ، مبتهلا للرب ، الذي خلق خير أمة ، أن يدمر بلاد
الكفار على رؤوسهم ، و يدمر صناعتهم ، و ما إلى ذلك من أدعية . في ظني لو لم يولغ مشايخ
الدين في المسيحية الأوروبية بفتاويهم ، في دماء أبناء الدين الواحد ، و إن اختلفت
طرق عبادة الإله المسيحي ، لما كانت اليقظة التي كبلت جماح أمراء الدين المسيحي ، و
أطلقت الحرية للشعوب و عقولها . و هاهي منظومة الوعي الداعشي تقوم بذات الدور .
من يقرأ عنوان المقال
: ( داعش ربيع العرب ..! ) يقع في حيرة من فهمه ، أن يكون الكاتب في الصف الداعشي
..! و لم يعتبر : إن داعش ، و فكرها الذي خرج من جماجمنا نحن العرب ، نتيجة حشوها بنصوص
، خرجت على هيئة كائنات تحمل السيوف ، بذقون القرون الوسطى ، و ألبستهم ، لتنقضّ على
كل من يخالف ، أو يختلف معها في الطرح . سافكة دماء الجماعات بلا رحمة ، باسم الله.
أجل ..! داعش فتحت قبور السلف..و أخرجتهم جميعا مع أحصنتهم و جمالهم ، و سيوفهم .
و لكن الحقيقة لو
لم تكن داعش في هذه الفترة بالذات ، لما خرجت تلك الكائنات المختبئة في مقبرة الذاكرة
، على هيئة فتنة . كما يرغب المتدين أن يسميها ..! معلنا : الفتنة نائمة ..لعن الله
من أيقظها ..! و لكنك لو طرحت عليه فكرة : لمَ لمْ تُقتل الفتنة يا شيخي ، و ينتهي
الأمر ..؟ لانتفض على الفور ، لأن قتلها يعني له انهيار النص ..و عندما ينهار النص
، الذي هو كمدماك ، في البناء الروحي للمتدين ، ينهار البناء كله ..لهذا السبب لم نر
مؤسسة دينية إسلامية ، على طول هذه الأرض المنكوبة بروحانيتها ، خرجت لتكفر داعش .
أو تشكك في النصوص التي اعتمدت عليها ، في أفعالها . بل قامت بفتاوى تسير في ذات النسق
الداعشي ، خشية اهتزاز إيمان الناس بجوهر النص ، و ميلاد الشك عند المسلم .
و لكن الواقع لم
يخدم هذه المؤسسات . لا من السلوك الداعشي ، الذي وضع العقل العربي في مأزق الشك ،
و التساؤل ..! و لا من الفتاوى المتطرفة ، لهذه المؤسسات . التي تعتبر ذاتها خارج النسق
الداعشي ، كالفتاوى الأزهرية التي وضعت المسلم المنفتح ، و ما أكثرهم ، أن يقف مع ذاته
وقفة يعول عليها في المستقبل القريب. متسائلا : هل هذا هو جوهر الدين ..؟؟ و هل الله
يأمر بقتل الكائنات التي ( خلقها ) بهذه الوحشية ..؟؟ حتى ذلك الإنسان الذي قام بفعله
الداعشي ، أو تعاطف معه ، من المسلمين ، لا بد لديه من السؤال : ماذا فعلت ..؟ لمن
هذا القتيل ..؟؟ هذا بعد أن أشبعت الروح المليئة بالحقد التاريخي .. بين رموز حملونا
ثأرهم ، و لا طاقة لنا به .
لهذا أقول : إن اليقظة
قادمة ..و النهضة قادمة ..و ما علينا إلا أن نتناول النص الفكري المنشور عاريا دون
أن نلبسه ثوب انتماء صاحبه ( بالمولد ) . فالذاكرة محشوة بكل فاسد و زائف ..فلنحاكم
التاريخ ، و الذاكرة ..و نفككها ، كما فعلت داعش في بنائنا الروحي ..لقد فككت البناء
العاطفي للعربي دون رحمة ( و هذا ما يجب )..فما فعلته داعش ، عن غير قصد ، لم تستطع
فعله كل المنظومة الثقافية العربية ، مع أنظمتها ..! لذلك قلت : داعش هي ربيع العرب ..!
0 التعليقات:
إرسال تعليق